دولة ما بعد الاستقلال فى العالم العربي، ولدت ولادة قسرية، والأحرى قيصرية، وبدت وكأنها كيان ومعنى ودلالة رمزية مفارقة للواقع الوطنى بجروحه ومشكلاته وانقساماته العرقية والدينية والمذهبية واللغوية والقومية والمناطقية، بدت ولا تزال ككائن فوقى قمعى بامتياز، واحتكارها للقمع المفترض أن يكون مشروعًا، ظهر وكأنه قرين اللامشروعية، لأنه قمع منحاز لمصالح ضيقة للنخبة السياسية المسيطرة، والقادمة عبر الانتخابات والاستفتاءات المزورة، أو من خلال تعبيرها عن القبيلة والعشيرة والدين والمذهب وانحيازها لمجموعة من مصالح القلة فى الحكم وظهيرها الاجتماعى الذى تستند إليه فى مواجهة المكونات المجتمعية الأخرى أيًا كانت طائفية أو قبائلية أو دينية أو مذهبية أو قومية أو مناطقية. الاستثناء الأول فى هذه المنطقة من العالم، كانت الدولة/ الأمة المصرية الحديثة وفق النموذج الغربى على أيدى محمد علي، والخديو إسماعيل، وأبناء البعثات/ المثقفين فى الدولة وخارجها، ومعهم البيروقراطية الحديثة، والمؤسسة العسكرية. من أبرز معالم التحديث السلطوى للقيم والمؤسسات، دولة القانون الحديث الوضعى المصدر والغربى الملامح والسمات والبناء، الذى جاء بهندسة قانونية واجتماعية نقلت المجتمع والدولة، من بناء القوة التقليدي، الحرفى والطوائفى إلى دولة تعتمد على بنيان من المراكز القانونية، والمساواة بين المواطنين المخاطبين بأحكامها أيًا كانت دياناتهم ومذاهبهم ومواقعهم الاجتماعية، ومن ثم نشأت المؤسسات السياسية كالبرلمان والمؤسسة القضائية، والحكومة وتبلورت التمايزات الوظيفية بينهم مع التجربة السياسية والتطور الدستورى فى البلاد، مع نشأة الدساتير وتطبيقاتها ومشكلاتها.. من هنا تطورت أوضاع الأقباط المصريين كجزء من بنية الأمة الواحدة الموحدة فى إطار مشاركتهم الأصيلة فى ثورة 1919، وفى نطاق حزب الوفد مستودع الحركة الوطنية قبل 1952ـ، ومن ثم فى تفاعلات النظام شبه الليبرالى ومؤسساته. تحققت المشاركة السياسية الفاعلة للأقباط فى الحياة العامة ومؤسسات الدولة على اختلافها. الإحساس بالتمتع بمبدأ المساواة، ساهم فى تحريك قيم العمل والإبداع والكفاءة فى إطار الحياة الوطنية المشتركة. اقتصرت حقوق المواطنة على السياسة والعمل فى مؤسسات الدولة، إلا أنها لم تمتد إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية قبل ثورة يوليو 1952، وبعدها كانت لها الأولوية العليا، مع قصر المواطنة السياسية على عضوية التنظيم السياسى الواحد أيًا كان اسمه- فى ظل حصار المجال العام السياسي. فى ظل توظيف النظام للإسلام فى السياسة كأداة للشرعية والتعبئة السياسية والاجتماعية والدينية وفى السياسة الخارجية- وفى التنمية، والسياسة الاجتماعية فى عهد ناصر، كانت الحرية الدينية للأقباط تتم فى نعومة نسبية، إلا أنه مع وصول السادات للسلطة، وتلاعبه بالدين بكثافة فى العمل السياسى فى مواجهة معارضيه، أدى إلى توظيف مكثف للمؤسسة الدينية، والجماعات الإسلامية السياسية فى مواجهة خصومه من اليسار والناصريين، وامتد إلى فرض قيود على حرية ممارسة الشعائر للأقباط، وتزايدت الاعتداءات، والمشكلات الطائفية فى عهده، وامتدت إلى عهد حسنى مبارك على نحو غير مسبوق.
استمرت عمليات الاعتداء على حقوق المواطنة الدينية فى عقب مشاركة الأقباط فى انتفاضة 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وتعرضوا لانتهاكات جسيمة لحقوقهم فى ظل حكم الإخوان والسلفيين، من حرق وهدم للكنائس، والاعتداءات البدنية من ضرب، وجرح ... إلخ! ساعد على تفاقم هذه الاعتداءات الإجرامية عدم تطبيق القانون على منتهكى أحكامه، وذلك باللجوء إلى آلية المجالس العرفية للإفلات من المساءلة والعقاب. من ثم أدى ذلك إلى ازدياد أحداث العنف ضد الأقباط وممتلكاتهم فى المحافظات والمدن والقرى المختلفة لاسيما فى المنيا وغيرها، وذلك للأسباب التالية:
1- سهولة حسم بعض المتطرفين والعامة النزاعات والمشكلات العادية عن طريق تحويلها إلى نزاعات طائفية لإخفاء أسبابها الحقيقية.
2- ضمان منتهكى القانون عدم المساءلة الجنائية والقانونية/ المدنية بعد الاعتداء، وأن المجالس العرفية لن تعطى المضرور حقوقه. أحد أكبر مخاطر اللجوء إلى المجالس العرفية هو إحساس المواطنين بأن قانون القوة والغلبة العرفى أهم من قانون الدولة، على نحو أدى إلى إضعافه، وفقدانه الهيبة والسيادة فى النزاعات العادية اليومية التى تتحول إلى طائفية من قبل بعض المتطرفين الغلاة الذين يحاولون فرض نفوذهم ومكانتهم فى الحياة اليومية وفى مناطق عديدة! من هنا تظهر بين الحين والآخر حالات نفى بعض الأقباط من قراهم وإحيائهم وفرض تعويضات عليهم! وهو ما يسئ إلى هيبة ومكانة الدولة داخليًا، وفى العالم وأن الدولة تتنازل بإرادتها عن قانونها تحت ضغوط المتطرفين، وبعض الجناة! أن المدخل الرئيسى لمواجهة أشكال العنف ذات الطبيعة الطائفية يكمن أساسًا فى تطبيق القانون على المخالفين لأحكامه، وضرورة تجريم إنشاء المجالس العرفية فى مجال حسم النزاعات الطائفية والثأرية، لأن سيادة القانون تعلو فوق قانون القوة والأعراف.