قبيل ثورة 1919 كانت بذور الرفض لسياسة المحتل الإنجليزى بدأت تثمر، وكانت المشتركات الوطنية هى المسيطرة على فكر المصريين جميعا، فلم تفرق معاملة الإنجليز «التعسفية» بين مسلم ومسيحى، وفى عام 1918 فكر حبيب جرجس – تلميذ البابا كيرلس الخامس - فى طريقة يتعرف من خلالها الأطفال على تعاليم التسامح والمحبة والإخاء، فكانت «مدارس الأحد»، التى بدأت بحلقات صغيرة داخل الكنائس الارثوذكسية لترسيخ مفهوم «الدين لله والوطن للجميع»، وكبرت مع مرور الوقت وانتشرت فى أماكن كثيرة.
ومنذ تأسيسها يمر من هنا الباباوات والرهبان والقساوسة والخدام، وإن شئت الدقة « فالجميع يمر من هنا»، فكل منهم كان طفلا صغيرا، يسعى إلى معرفة
تعاليم دينه، ليستفيد منه ويطبقه فى دنياه، ومن هنا أيضا تعرضت الكنيسة المصرية لآلام كثيرة نتيجة حب الوطن ورفض التعاون مع المستعمر أو المحتل، وزالت الآلام بتكاتف مسلميها ومسيحييها وبقيت الوطنية شعلة مضيئة للإخاء والمودة والانتماء للوطن.
اليوم تحتفل الكنيسة الارثوذكسية الوطنية المصرية بمرور 100 عام على تأسيس «مدارس الأحد»، و»الأهرام» تشاركها الاحتفال من خلال هذا الملف لتعريف القراء بأحد الأعمدة المهمة لتعليم الدين المسيحى السمح، فأغلب الناس يعرفون الاسم جيدا «مدارس الأحد»، ولكن القليل من يعرفون تاريخ النشأة والهدف ومراحل التطور والدور الوطنى لهذا الكيان التعليمى.
«خادم ومخدوم يعتز بهويته وينتمى إلى وطنه»كانت وسيلة التربية والتعليم بين الأقباط فى القرون الأولى هى المدارس الملحقة بالكنائس والأديرة، وكانت الدراسة فيها باللغتين القبطية واليونانية لتعليم القراءة والكتابة والفلسفة والحساب والعلوم الدينية، وبعد أن أصبحت اللغة العربية هى لغة الوطن بداية من القرن العاشر، أُطلق على هذه المدارس أسم الكتاتيب - مكان تعليم الكتابة-، وكانت طرق التعليم المستخدمة بدائية مثل الحفظ والتلقين، وقد كان هذا كفيلا بأن يخفت «مشعل» الثقافة، ولكن بعد تأسيس «مدارس الأحد» بدأ عصر النهضة والتنوير، ولذلك خصص الدكتور طه حسين فى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» فصلاً عن التعليم الدينى للأقباط، ورصد فيه تجربة «مدارس الأحد» ، وطالب باهتمام الدولة بإعداد رجال الدين المسيحى، واصفا الكنيسة القبطية بأنها مقوم من مقومات الوطن.
حول مراحل التأسيس والتطور يقول الدكتور إسحاق عجبان – رئيس قسم التاريخ بمعهد الدراسات القبطية - الفترة الأولى لتأسيس مدارس الأحد ، كان المنهج الأساسى لها هو إنجيل قداس يوم الأحد ، وهذا هو سر اختيار التسمية الأولى لها «إنجيل الأحد للمدارس»، ومن الأماكن التى شهدت بدايات هذا النشاط: كنيسة العذراء بالفجالة، وجمعية «جامعة أشعة قلب يسوع» التى أسسها الأرشيدياكون حبيب جرجس سنة 1902، والتى تغير اسمها 1905 إلى «جامعة المحبة»، وقد اهتمت هذه الجمعـية بتربية النشء وتعليمهم، وبمرور الوقت تم تشكيل لجان فرعية فى الأماكن التى بدأت فيها مدارس الأحد ، بجهود طلبة المدرسة الإكليريكية وخريجيها فى اماكن كثيرة.
وفى سنة 1935م كان عدد فروع اللجنة العامة قد وصل إلى 85 فرعاً بالقاهرة والأقاليم، وبالسودان والحبشة «20 فرعاً بالقاهرة، و17 بالوجه البحرى، و44 بالوجه القبلى، و3 بالسودان، وفرعاً بالحبشة».
وعن مسيرة تطويرها يقول: عاصرت مدارس الأحد عهود سبعة من بطاركة الكنيسة القبطية منذ نشأتها فى عهد البابا كيرلس الخامس البطريرك الـ 112، وسارت مسيرة التطوير فى عهد البابا يوأنس التاسع عشر (١١٣)، والبابا مكاريوس الثالث (١١٤)، والبابا يوساب الثانى (١١٥)، والبابا كيرلس السادس (١١٦)، والبابا شنودة الثالث (١١٧)، وحاليا تشهد تطورا كبيرا على يد قداسة البابا تواضروس الثانى البطريرك (١١٨)، وعندما نعرض تاريخها الحديث فى عهد البطاركة المعاصرين على مدار الستين سنة الاخيرة ، فإنه فى مايو 1959 جلس على الكرسى البابوى البابا كيرلس السادس ، وهو الذى يعـد المرشد الروحى لكثير من الطلبة الجامعيـين رواد مدارس الأحد من الجيل الثانى.
وبعد جلوس البابا شنودة الثالث على الكرسى المرقسى سنة 1971، أصدر قراراً بمراعاة مواعيد خدمة مدارس الأحد بكل فروعها. وأيضا كانت هناك توجيهات بابوية بأهمية تمثيل مدارس الأحد، عند تشكيل مجالس الكنائس، وأهمية إعداد الخدام، وتكليف رواد الخدمة القدامى بكتابة وتسجيل تاريخ مدارس الأحد، وتطبيق فكرة «أسبوع الطفل» ببعـض الكنائس، كما تأسست اللجنة المجمعية للطفولة برئاسة نيافة الأنبا تواضروس (قداسة البابا تواضروس الثاني) ، وتأسست لجان الطفولة بالايبارشيات وقامت لجنة الطفولة بجهود كبيرة فى مجال المؤتمرات والمطبوعات والمناهج وكثير غيرها.
وفى نوفمبر 2012 جلس قداسة البابا تواضروس الثانى على الكرسى المرقسى، واستمر فى قيادة اللجنة المجمعية للطفولة ومواصلة جهودها فى مجال المؤتمرات والمطبوعات والمناهج ووسائل التواصل مع الأطفال، وفى أكتوبر 2013 اجتمع قداسته باللجنة العليا للتربية الكنسية، وتم الاتفاق على ضرورة «المنهج الموحد»، وكذلك الاهتمام بتدريب الخدام والارتقاء بمستواهم، ومنذ يناير 2015 بدأت سلسلة حلقات من المركز الإعلامى للكنيسة بعـنوان «حكايات البابا مع الأطفال، « وهى حكايات تعـليمية بطريقة تربوية قصصية جذابة، ويحكيها قداسة البابا بنفسه، وفى نوفمبر 2014م اصدر المجمع المقدس «دليل تنظيم الخدمة» ليكون بمثابة لائحة لمدارس الأحد، وفى نوفمبر 2015م افتتح قداسة البابا قناة كوجى للأطفال.
أهداف وطنية
وعن الدور الوطنى الذى قامت به مدارس الأحد، يقول الدكتور سينوت دلوار شنودة « مقرر لجنة تاريخ مدارس الأحد « كان من أهم أهدافها وقت تأسيسها: الهدف الثالث الذى ينص على « تعويدهم الفضائل والأخلاق السامية وتحذيرهم من الوقوع فى الخطايا المنتشرة، كالحلف والكذب وغيرها وإعدادهم ليكونوا رجالاً نافعين لوطنهم»، والهدف الخامس الذى ينص على» بث روح القومية فيهم وتعويدهم على خدمة شعوبهم»، واستمرت مدارس الأحد فى هذا الخط الوطنى طوال مسيرتها الطويلة حتى اليوم ، ونحن نحتفل بيوبيلها المئوى ، وتم إعادة كتابة أهدافها لتتواكب مع متغيرات العصر، فأصبح الهدف الرابع «خادم ومخدوم يعتز بهويته وينتمى إلى وطنه» ، والهدف الخامس «خادم ومخدوم ينفتح على العالم بإفراز، ويمارس دوره ومسئوليته كنور للعالم وملح للأرض» ، والهدف الثالث «خادم ومخدوم يتمتع بشخصية سوية متكاملة روحياً وثقافياً ونفسياً واجتماعياً، ويدرك إمكاناته ومواطن قوته ، لينمى ويستثمر مواهبه ويدرك مواطن ضعفه ليعالجها ويطورها».
وأضاف: وُلدت مدارس الأحد فى عام 1918م، وهو العام الذى شهد تأجج الشعور الوطنى المصرى الخالص، ولم تكن الكنيسة بعيدة أبدا عن هذا الخط ، فقد كان سعد زغلول وزير المعارف والذى صار زعيماً لثورة 1919م ، صديقاً شخصياً للبابا كيرلس الخامس وتلميذه الشماس حبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد، ولما قامت ثورة 1919م كان للأقباط دور مميز فيها إلى جانب إخوتهم المسلمين، وكان لهم مكان مميز فى الوفد الذى حقق مطالب الثورة والشعب المصرى، ولما نجحت الثورة وتكونت وزارة الشعب برئاسة سعد زغلول ، استعان بالشماس حبيب جرجس فى مجال التعليم، وأوكل إليه تأليف الكتب التى تحفظ وحدة الأمة المصرية وتماسكها، وعلى مدى مسيرتها تخرج منها مواطنون صالحون ساهموا فى رفعة البلاد فى جميع المجالات.
مدرسة حب الوطن والغير
ويقول جرجس صالح -الأمين العام الفخرى لمجلس كنائس الشرق الاوسط ومقرر لجنة مؤتمر مدارس الأحد : خلال تاريخها الطويل أثبتت أنها «مدرسة حب الوطن» فإلى جوار دورها الروحى والتعليمى، فأنها تغرس فى تلاميذها منظومة متكاملة من الفضائل والقيم والمبادئ الروحية والاجتماعية والوطنية، وتعلمهم قبول الآخر والتعايش المشترك على أسس روحية وعلمية وتربوية ووطنية، وتعتبر احتفالية مئوية مدارس الأحد هى انعاش لذاكرتنا الوطنية والكنسية ، لنسترجع معاً ما اثرت به مدارس الأحد خلال قرن من الزمان، فلقد أثرت فى الحياة الكنسية والوطنية فى مجالات كثيرة.. ، وأننا نقوم حالياً بالإعداد لمؤتمر أكاديمى كبير بمناسبة مئوية مدارس الأحد، لنتدارس ونناقش ونستفيد بما يقدم من أبحاث واوراق بحثية لتسجيل تاريخ مدارس الأحد ، ودراسة انشطتها وتأثيراتها وما قـدمته فى مجال العمل الروحى والرهبنة ونهضة اللغة القبطية والألحان ، وكذلك ترجمة أقوال الآباء .. وكثير غيرها ، ومن التوافق العجيب ان يحمل عام ٢٠١٨ ثلاثة احتفالات فى عصر البابا الـ ١١٨ ، فى عداد بطاركتنا العظام. واول هذه الاحتفالات هو الاحتفال بمئوية مدارس الأحد.