تحدثنا فى الأحد الماضى عن أنواع النشاطات الإنسانية مثل: النشاط الفردى (الشخصى)، والعائلى (الأسرة)، والجماعى (مثل مجموعات ذات أهداف مشتركة )، والمجتمعى (الخاص بالوطن ككل) والعالمى (الذى يمتد عبر العالم كله، فى زمن العولمة).
مكونات الشخصية الإنسانية
واقترحنا أن نضيف إلى المثل الصينى الشهير: إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحده عبارة فى الاتجاه السليم.. فما أخطر أن يتحرك الإنسان بكل طاقته، ولكن فى اتجاه خاطئ، لا يقوده إلى حياة مقدسة مع الله على هذه الأرض، تمهيدًا لحياة أبدية سعيدة فى الملكوت.. فالمستقبل الزمنى على هذه الأرض يجب أن يمتد فى اتجاه المستقبل الأبدى فى الملكوت. ثم وصلنا إلى سؤال هو: ما أنواع الطاقات الإنسانية؟.
أولاً: الكل لديه طاقات كامنة:
هذه حقيقة مبدئية، فالكل عنده طاقات، حتى لو كان معوقًا بدنيًا أو ذهنيًا!! فالله العظيم فى محبته أعطى كل إنسان مواهب وطاقات، ربما تباينت فى أنواعها أو قدرتها.. ولكنها فى النهاية موجودة فى كل إنسان، مهما كان! والمطلوب أن تتكامل الطاقات معًا، ولا تتقاطع أو تتصارع فتأتى إلى لا شىء! فمثلاً الشباب يمثلون الحيوية، والكبار يمثلون الحكمة والخبرة، والحياة تحتاج الاثنين: حيوية الشباب وحكمة الكبار. ولو اكتفى الشباب بحيويتهم متجاهلين خبرة الكبار، ينحرفون، وربما يدمرون أنفسهم، مثل سيارة بدون دركسيون! وبالعكس، إذا أصرَّ الكبار على الاكتفاء بحكمتهم دون أن يعطوها للشباب، فستبقى الحياة راكدة بلا تقدم ولا نمو!!
من هنا كان واجبًا على كل إنسان أن يرى فى الآخر مخزون طاقة سواء كانت هذه الطاقة حيوية شباب أو خبرة كبار.. وعلى الجميع أن يتكاملوا معًا كالجسد الواحد، الذى تختلف أعضاؤه عن بعضها البعض، ولكنها تعمل معًا لخير الإنسان كله.
ثانياً: الكل من الله:
ولا شك أن كل هذه الطاقات هى من الله، فالله هو الخالق، وهو المعطى، وهو مصدر كل ما فى حياتنا من مواهب ووزنات. وهو كما يقول الكتاب المقدس: الَّذِى يُعْطِى الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ (يع 5:1).. فإذا ما تصور إنسان ما أنه يملك طاقات أكبر أو أكثر أو أفضل من غيره، فعليه ألا يفتخر على إخوته بما عنده من مواهب أو وزنات أو طاقات، وينسى أنه أخذ هذا كله من الله، وأنها ليست من عنده؟!
ثالثاً: أنواع الطاقات الإنسانية:
الإنسان مكون من:
1- جسد يتحرك.
2- نفس تشعر وتحس.
3- عقل يفكر.
4- روح تتصل بالله.
5- علاقات اجتماعية تتفاعل.
ولكل عنصر من هذه العناصر الطاقات الخاصة به، والتى تتصاعد من طاقات جسدية، إلى نفسية، إلى عقلية، إلى روحية إلى تفاعل اجتماعى مع الناس. ولنعط بعض الأمثلة:
1- الطاقات الجسدية:
أ- فهناك إنسان قوى البنية، وهذا هو الغالب لدى الشباب، حيث يستطيع التحرك البدنى بنشاط وكفاءة، يمارس الرياضة، وينضم إلى نشاطات كشفية، ويسير مسافات طويلة، بل يجرى ويتسابق فى أنواع كثيرة من الرياضات البدنية. المهم أن يهتم بجسده، يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ (أف 29:5)، ولا يهمل إطلاقًا فى هذه الطاقة الحية، التى يمكن أن يستخدمها لخدمة الآخرين، وليس فى الشجار أو العنف أو السلوك المنحرف!.
ب- الشباب المتدين يعرف أن جسده هو وزنة من الله، وأن طاقاته البدنية أمانة يجب أن يحافظ عليها، ويستثمرها فيما هو بناء، سواء لنفسه أو أسرته أو وطنه. ولذلك يرفض أن ينحرف مع أصدقاء السوء، فى اتجاهات مدمرة مثل:
1- التدخين: الذى يدمر الرئتين والقلب والمثانة.
2- والمخدرات: التى تحدث تآكلاً فى المخ واضطراباً فى الشخصية.
3- والمسكرات: التى تؤدى إلى سرطان الكبد.. ومن ثم الوفاة!!
4- والنجاسة: التى تصل بالإنسان إلى الأمراض المنقولة جنسيًا. (Sexually Transmitted Diseases) أو ما تسمى اختصارًا STDs، مثل: السيلان والزهرى والهربس والإيدز والكالاميديا.. إلخ.
فعلى الشباب أن يهتم بغذائه، وفترات الراحة، والرياضة، والنشاط البدنى، محافظًا على جسده ليكون صحيحًا قادرًا على العطاء، والعمل فى أى مكان، أو يرعى مريضًا أو مشلولاً، أو غير ذلك من الخدمات.
وشعارنا هو: الرِّيَاضَةَ الْجَسَدِيَّةَ نَافِعَةٌ لِقَلِيلٍ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَىْءٍ، إذْ لَهَا مَوْعِدُ الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ وَالْعَتِيدَةِ فالجسد الصحيح مفيد للإنسان وهو على الأرض، أما التقوى الروحية فهى مفيدة فى الحياة الأرضية والسمائية معًا.
2- الطاقات النفسية:
ونقصد بها طاقة الحب المعطاء.. فالوجدان الإنسانى سخى فى الحب، يعطى بلا حدود، إلا حدود المبادئ. لهذا أوصانا الرسول بولس: فَأَحِبُّوا بَعْضكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ (1بط 22:1).. وهنا نلاحظ كم الحب (بِشِدَّةٍ)، وكيف الحب (مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ)! كما يوصينا أيضًا بأن الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ (1كو 33:15)، وينادينا قائلاً: أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ (2تى 22:2). وقديمًا قال سليمان الحكيم:
- لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَّرِّ، وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ (أم 1:24).
- لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِى الْخَمْرِ، بَيْنَ الْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُمْ (أم 20:23).
- اَلْمُسَايِرُ الْحُكَمَاءَ يَصِيرُ حَكِيمًا، وَرَفِيقُ الْجُهَّالِ يُضَرُّ (أم 20:13).
لهذا يجب على الشباب أن يحفظ مشاعره ووجداناته وعواطفه فى نقاوة، ويوجهها الوجهة السليمة البناءة، فكم من شاب وشابة، أسرتهم الشهوات، ودخلوا فى طريق الهلاك الأرضى والأبدى.
3- الطاقات العقلية:
فهناك شباب يتميزون بالذكاء والتحليل والذاكرة والقدرة على البحث.. وما أجمل أن يستثمروا هذه الطاقات العقلية فى النجاح الدراسى (فيحصلوا على تقديرات ممتازة)، والعملى (فيقودوا مشروعات ناجحة، ودراسات وبحوثا فى مجالات ثقافية أو علمية متنوعة، ويقدموها لإخوتهم فى صورة محاضرات أو ندوات أو كتب).
لذلك، فما أجمل أن يقرأ الشباب ويدرس ويفتش.. عملاً بالوصية: فَتِّشُوا الْكُتُبَ.. لكم فيها حياة.
4- الطاقات الروحية:
وهى المتصلة بالروح الإنسانية، التى استودعها الله فى الإنسان، حينما نفخ فى التراب.. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً (تك 7:2). هذه الروح العاقلة التى يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، هى التى تقوده إلى الله، وتجعله يفكر فى الإلهيات، واللا نهاية، والـ ما ورائيات أى ماذا وراء الطبيعة؟ وماذا وراء المادة؟ وماذا وراء الزمن؟ وماذا بعد الموت؟. وبهذه الروح الكامنة فى الإنسان، بدأ الإنسان يفكر فى الأبدية، وفى وجود الله، وفى الحياة الآخرة.
وحين تشبع الروح.. تتأهل بنعمة الله أن تخدم الآخرين، لتقودهم فى الطريق الصحيح وطريق الملكوت، وحين ينمو الإنسان فى هذه الحياة الخادمة، ينفع الإنسان وكل من حوله.
5- الطاقات الاجتماعية:
فالشخصية الإنسانية هى نتاج التفاعل بين الإنسان والمجتمع، والإنسان بطاقاته الأربع: الروحية والعقلية والنفسية والبدنية، يتفاعل مع المجتمع، وينتج عن هذا التفاعل طاقات اجتماعية متنوعة مثل: القدرة على تكوين علاقات محبة داخل وخارج محيط الأسرة، والقدرة على تكوين مجموعات وقيادتها فى طريق الخير والبنيان، والقدرة على التفاهم، وإجراء مصالحات بين الناس.
إن الله لم يطلب منا أن ننعزل عن الناس أو المجتمع، بل طلب منا أن نبقى فيه أمناء، محبين للكل، وخادمين للجميع. فهو الذى قال بفمه الطاهر عن أولاده وبناته: لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ (يو 15:17)... أى أن المؤمن الحقيقى سيظل فى العالم، خادمًا، وشاهدًا أمينًا للإله العظيم، وناشرًا للخير والمحبة، ومبشرًا بالقدوة الحسنة والسلوك المستقيم.
وهنالك طاقات اجتماعية كثيرة يمكن أن يستثمرها الإنسان لخير الإنسان والأسرة والمجتمع والوطن، إذ يكون كالملح الذى يذوب دون أن يضيع، والنور الذى يهزم فلول الظلمة، والسفير الذى يشهد لإلهنا العظيم، والخميرة التى تخمر العجين كله.
هذه هى بعض أنواع الطاقات الإنسانية الكامنة فينا، وهنا يأتى السؤال: كيف أكتشف طاقاتى؟. (يتبع إن شاء الله).
* أسقف الشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية