ظل ما يسمى معجزة نقل جبل المقطم على يد القديس سمعان الخراز من الثوابت التى تتناقلها الأجيال، ويدونها العديد من الوثائق والمخطوطات التاريخية القبطية، وأشهرها سير البيع المقدسة، الذى يعد أقدم مصدر للقصة.
ولاتزال تلك القصة محل جدل كبير ما بين مؤيد لها ومدافع عنها بشدة، وبين مُشكك فى حدوثها من الأساس، وعلى الرغم من كونها واحدة من المعجزات الشهيرة، إلا أن مصادرها مُجهلّة لدى الكثيرين، ويتم سرد تفاصيلها شفويا من خلال السماع.
الباحث شريف رمزى، أعاد قراءة المعجزة بشكل مختلف عن سابقيه، فى كتابه الذى صدر حديثا بعنوان: أعجوبة نقل الجبل المُقطم.. قراءة جديدة فى مخطوط سيَر البيعة المقدسة ويسلط الكتاب الضوء على النصوص التاريخية التى دونت المُعجزة.
القصة: وزير المعز أراد إثبات خطأ الإنجيل فاقترح نقل المقطم
يذكر كتاب السنكسار، وهو كتاب معتمد من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويحوى سير القديسين والشهداء وتذكارات الأعياد، وأيام الصوم، مرتبةً حسب أيام السنة، ويُقرأ منه فى الصلوات اليومية فى الكنيسة الأرثوذكسية أنه فى عهد البابا إبرام بن زرعة البطريرك الثانى والستين من بطاركة الكرازة المرقسية تمت معجزة نقل جبل المقطم.
وأضاف الكتاب: كان للخليفة المعز لدين الله الفاطمى وزير اسمه يعقوب بن كِلِّس، يكره المسيحيين ويريد الإيقاع بهم، فدخل على الخليفة وقال له: يوجد فى إنجيل المسيحيين آية تقول: (لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل) (مت 17: 2) ولا يخفى على أمير المؤمنين ما فى هذه الأقوال من الادعاء الباطل.
وتابع السنكسار: اقترح يعقوب على الخليفة استدعاء البطريرك ليقيم الدليل على صدق قول الإنجيل، ووافق المعز على الاقتراح لاعتقاده بأن نقل جبل المقطم، الذى يكتنف القاهرة سيكون مفيدًا، لأنه إذا ابتعد عنها الجبل ستصير القاهرة أوسع، وحين أخبر البطريرك برغبته، رد عليه الأخير بطلب مُهلة 3 أيام اجتمع فيها مع الأساقفة والرهبان القريبين ومكثوا بكنيسة القديسة العذراء المعلقة بمصر القديمة، 3 أيام صائمين ومصلين لله.
وتضيف الرواية، وفق ما جاء فى الكتاب، أنه فى فجر اليوم الثالث ظهرت العذراء للأب البطريرك وأعلمته عن إنسان دَبَاغ (خراز) قديس اسمه سمعان، سيُجرى الله على يديه هذه المعجزة، ثم أخبروا المعز باستعدادهم لنقل الجبل. وقف البطريرك ومن معه فى جانب، والمعز ومن معه فى جانب آخر، ثم صلى البطريرك والمسيحيون الذين معه وسجدوا 3 مرات قائلين (كيرياليسون... يارب ارحم) وكان عندما يرفع البطريرك والشعب رءوسهم بعد كل ميطانية يرتفع الجبل، وكلما سجدوا ينزل إلى الأرض، وإذا ساروا سار أمامهم، حسب ما جاء فى الكتاب.
واستكمل: تقدم الخليفة من البطريرك وهتف قائلًا (عظيم هو الله وتبارك اسمه، لقد أثبتم أن إيمانكم حقيقى حى، فاطلب ما تشاء وأنا أعطيه لك) فلم يقبل البطريرك أن يطلب شيئًا، ولما ألح عليه طلب تعمير الكنائس، خاصة كنيسة القديس أبوسيفين بمصر القديمة، وبالفعل تم له ما طلب.
وتذكارًا لمعجزة نقل جبل المقطم أضافت الكنيسة 3 أيام إلى صوم الميلاد فأصبح 43 يومًا.
الباحث: الرواية كُتبت بعد وفاة صاحبها بـ100 عام
هناك اعتقاد بأن الأنبا ساويرس ابن المقفع، أسقف كرسى الأشمونيين، هو كاتب سير البطاركة، الكتاب الذى تعتمد عليه الكنيسة لسرد تفاصيل المعجزة. الباحث شريف رمزى ينفى صحة ذلك الاعتقاد، ويقول: لا صلة لساويرس ابن المقفع بتلك السيرة، ولا هو جامع تاريخ البطاركة، بل إن أول عملية جمع وتأريخ لسير الآباء البطاركة على هذا النحو التسلسلى لم تبدأ إلا بعد 100 عام من وفاته.
وجاء فى أقدم نسخة من كتاب سير البطاركة (مخطوط 304 فى مكتبة هامبورج)، التى تتضمن سير البطاركة من مارمرقس حتى البابا خائيل الأول البطريرك 46، ويعود نسخها لعام 1266م- مقدمة تنفى صحة ما تم تداوله فى باقى النسخ المتاحة. ورأى رمزى أن ما قاله ابن المقفع فى مقدمة الكتاب: وأنا أضع مطانوات لمن قرأ ما كتبته أن يستغفر لى فيما أقدم عليه (ونسبت نفسى إليه) ويدعو لى ولوالدى وولدى بالعفو والمسامحة، كفيل بنفى صحة نسب العمل له، كونه كان أسقفًا وبتولًا، فيما تحسم مسألة جمع سير البطاركة لصالح شخص متزوج ولديه ابن. وأضاف رمزى: رواية (نقل جبل المقطم) كتبها ميخائيل أسقف تنيس، راوى سيرة إبرام ابن زرعة البطريرك الذى تمت فى عهده المعجزة، وكتبها فى إطار تدوينه لسير 10 من الآباء البطاركة، وليس ساويرس ابن المقفع. وأوضح أن الجزء الذى دونه الأنبا ميخائيل، أسقف تنيس، وتضمن أول ذكر لمعجزة نقل جبل المقطم، لم يظهر للنور إلا بعد مرور أكثر من 70 عامًا على الواقعة، وبرغم ذلك فإن أقدم النسخ المخطوطة المحفوظة إلى الآن من سير البيعة المقدسة متضمنة سيرة الأنبا إبرام ابن زرعة، والمعجزة التى جرت فى عهده يعود تاريخها للقرن الـ14، فالأصول ضاعت وما وصلنا هو نقل بواسطة النساخ فى أزمنة لاحقة. وأضاف الباحث: أول نسخة مطبوعة من كتاب السنكسار صدرت عام 1912 فى عهد البابا كيرلس الخامس، تحت عنوان (الصادق الأمين فى أخبار القديسين) ولم تولِ اهتمامًا يذكر بالقديس المجهول صاحب المعجزة، كما لم تولِ أى اهتمام بتفاصيل واقعة عثرته فى النظر واشتهائه لامرأة، واختزلت المعجزة فى زلزلة عظيمة ألقت الرعب فى قلب الخليفة وقلوب المحيطين فسقط منهم على الأرض. واعتبر أن ذلك يعنى أن رواية أول سنكسار مطبوع فى تاريخ الكنيسة القبطية لا تأخذ بفكرة انتقال الجبل، من مكان لآخر بل حدوث زلزلة عظيمة. ويحتفظ الدير بمخطوطة ذكرت تفاصيل المرأة التى تعثر بسببها القديس المجهول، وتذكر تفاصيل لم ترد فى سير البيعة المقدسة، مثل أن سمعان الدباغ أو الخراز كان يجلب الماء ليلًا للفقراء ويملأ الأجران الفارغة بلا أجر ويتحصل على طعامه من المؤمنين. كما أنها تسرد تفاصيل لم يرد ذكرها فى موضع آخر، مثل أن القديس كان دوره معلنا وقت المعجزة ومطالبته بتحريك الجبل كانت أمام الجموع، وهو بخلاف كل الروايات الأخرى، كما تذكر المخطوطة بخلاف كل ما سبق، أن المعز اعتنق المسيحية وتعمد واعتزل الجاه واتجه إلى أحد الأديرة، ما يعنى أن هذه الرواية يتناقلها الكثير من الأقباط نتيجة النقل الشفهى دون وجود مصدر آخر موثق لها.
وجاء أول ذكر للمعجزة بعد سير البيعة المقدسة فى كتاب تاريخ الأديرة والكنائس القبطية وبخلاف ما جاء فى سير البيعة المقدسة فإنه يذكر أن المعجزة تمت فى عهد العزيز بالله، ابن المعز لدين الله.
أما الاختلاف الثانى فجاء فى استعراض أجواء ماراثونية بين أصحاب الديانات الثلاث لمحاولة إثبات صحة كل دين ومن خلال المعجزة كانت المسيحية هى صاحبة النصيب من الفوز. هذا بخلاف عدة وثائق تاريخية أخرى تتفق فى حدوث المعجزة وتختلف فى سرد تفاصيلها.
وقال الباحث إن أقدم مخطوط وصلنا متضمنا معجزة نقل جبل المقطم يعود للقرن الـ14 باريس عربى 303، وبمطالعة وقائع المعجزة يظهر أن التواتر الشفهى لعب دوره فى حفظ بعض التفاصيل، التى لم تتطرق إليها المخطوطات، بينما تشغل حيزًا واسعًا فى الذاكرة الجمعية لدى الأقباط. فمثلًا لم يذكر الكاتب فى المخطوطة المشار إليها اسم الجبل الذى نقل، والأكثر غرابة أن اسم سمعان نفسه لم يرد فى المخطوطة واكتفى الكاتب بالإشارة إليه دون ذكر اسمه: الدباغ... رجل بعين واحدة.. على كتفه جرة مياه. وأضاف رمزى أن المخطوط لم يذكر أيضًا تفاصيل يعرفها جميع المسيحيين عن القصة نفسها مثل أن امرأة جاءت له لإصلاح حذائها فقلع عينه حين نظر بشهوانية إلى ساقيها، أما ما يذكره المخطوط فيما يعنى أن الرجل لجأ إلى فقء إحدى عينيه ولم يرد ذكر هذه المرأة. أما مسألة اعتناق المعز للمسيحية فيقول الكتاب إنه لم يرد ذكر أى شىء عن ذلك فى أى وثيقة تاريخية قديمة.
الكنيسة: لا نحكم على البحث بالهرطقة.. ولا نعارض الاجتهاد
أيد الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار، ما جاء فى الكتاب، وقال عنه: كشف عن الموضوع من كافة النواحى، وقدم خلاله الباحث طرحًا عميقًا من خلال قراءة المصادر القديمة. أما الدكتور صموئيل القس قزمان معوض، الباحث بقسم القبطيات بجامعة مونستر الألمانية، الذى تولى المراجعة التاريخية للكتاب، فيقول: فى هذا الكتاب يُقدم المؤلف تأصيلًا تاريخيًّا للمعجزة المعروفة لدى الأقباط. وأضاف: كما أنه يقدم دراسة كل تفاصيل الحدث من شخوص وأماكن وتواريخ، وكيف تطورت بعض التفاصيل عبر الزمن، وكل ذلك بمثابرة ودِقة وحيادية، مع الرجوع للكثير من المصادر والمراجع التاريخية.
من جانبه، قال القمص بطرس رشدى، كاهن دير سمعان الخراز، لـالدستور إن الكنيسة لا تمانع من وجود أبحاث تحث على توضيح بعض الحقائق العالقة بالتاريخ، مضيفًا: ما نعرفه عن المعجزة جاء من خلال الكثير من المخطوطات الشهيرة الموجودة فى الدير أو فى كنائس حول العالم، أشهرها (سير البيعة المقدسة)
وأضاف رشدى: لا نستطيع ككنيسة الحكم على الأبحاث وأنها مهرطقة، إلا بعد قراءتها ودراستها، أما كل محاولات القراءة فى هذا الإطار فهى اجتهاد علينا الاهتمام به.