بقلم أحمد الجمال
سيبقى الفضل لأستاذى الدكتور إسحق عبيد، منحه الله الصحة وطول العمر، ومن بعده للصديق الأستاذ الدكتور رأفت عبدالحميد، رحمه الله، العميد الأسبق لآداب عين شمس، أن جذبانى إلى تاريخ العصور الوسطى وتاريخ المسيحية ومذاهبها، وأتذكر وكأنها البارحة، مدرج سنة ثانية تاريخ فى آداب عين شمس والأستاذ الممشوق القوام الأقرب للنحافة ذا الجاكت الصوف التويد والبنطال القطيفة المضلعة البنى المحروق، وهو يطلب بلهجة صارمة آمرة الطالب الجمال: يا جمال انزل المكتبة هات كامبريدج ميديفيال هيستورى، وينزل العبد لله فريرة إلى الدور الأرضى، ويطلب من عم كامل أمين المكتبة الموسوعة، ويصعد لاهثا بتأثير من سجاير البلمونت القصير ويأمر الأستاذ أن يبدأ الطالب أنطوان القراءة، ويتنقل المجلد من طالب لطالبة وهلم جرا.. وفى نهاية العام ظهرت النتيجة ومنحنى أستاذى تقدير جيد جدا فى تاريخ بيزنطة ومثله فى تاريخ العصور الوسطى، وعند أول مقابلة ربت على كتفى وقال: لو هناك امتياز فى التاريخ لمنحته لك، ولكن أنا شخصيا لا أحصل على الامتياز.. أما الرائع رأفت عبدالحميد فقد صقلتنى وعمقت معارفى ووسعت مداركى كتبه فى مصر المسيحية، وكم كنت حزينا- وبقيت- على رحيله المبكر قبل أن يستكمل موسوعته التاريخية شديدة التأصيل العلمى عن تاريخ مصر فى العصر المسيحى الممتد من دخول القديس مرقس الإسكندرية فى الثلث الأخير من القرن الأول إلى القرن السابع أو الثامن الميلادى.
هويت دراسة تاريخ تلك الحقب، ومع اندماجى فى العمل العام اكتشفت أن معظم المهتمين بالسياسة وبالثقافة يعانون من نقص شديد فى معرفتهم بتاريخ المحروسة، التى يعلنون أنهم يبذلون الغالى والرخيص فى سبيلها، وعند أول منعطف يحتاج فيه العمل العام والشأنان السياسى والثقافى حبتين أو مقدارين من التأصيل التاريخى الكاشف لجوانب وأركان التكوين الحضارى المصرى العريق، تجد أصحابنا وكأنهم قادمون من شمال الشمال الجغرافى، يتحدثون عن البنيوية والوظيفية والجدلية المثالية والأخرى المادية والحداثية، وما قبلها وما بعدها وما أثناءها وما حولها وما داخلها وما على دايرها، وعن المثقف العضوى والآخر المعقم بطلاقة منقطعة النظير، فإذا ألمحت لهم بالالتفات إلى كيف صار الهللينى هللينستيا، بعد أن تضطر للرطانة الطلقة، وكيف قدمت المحروسة للبشرية فى العصور القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة وبدرجات متفاوتة الجديد فى أكثر من مضمار، وأن الهلليني- أى الحضارى الإغريقى- أصبح هللينستيا، أى جامعا بين حضارتى الإغريقى والشرق بفضل مصر القديمة، عملوا أنفسهم من بنها على رأى ولاد البلد هذه الأيام!.
أقول ذلك لأننى بعد المقالين الفائتين اللذين كتبت فيهما طرفا من سيرة آباء الإصلاح فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية، وهما البابا بطرس الجاولى وكيرلس الرابع، فوجئت بمن يرسل لى على بريدى الإلكترونى رسالة لوم وتحذير.. لوم على أن الكتابة الإيجابية عن الباباوات المسيحيين مرفوضة، وتحذير من أننى إذا استمررت فسأكون منهم ومعهم، بما معناه أكون كفرت وخرجت من الملة!.
ورغم أن الكاتب- أى كاتب - يمكن أن يتلقى رسائل من هذا النوع بالمئات ولا يتوقف عندها، إلا أننى توقفت لأنها رسالة كاشفة، تفيد بأنه رغم المجهودات المضنية لتجديد الخطاب الدعوى الإسلامى، ورغم الجهد الثقافى والفكرى المستمر طيلة القرون من أواخر الثامن عشر وبطول التاسع عشر والعشرين وإلى الآن، لحفز العقل الجمعى المصرى على أن يتخلص من الانفصام والعمى، إلا أن المشوار لا يزال طويلا.. وطويلا جدا.
ثم إننى أجدد التأكيد على أن معرفة تاريخ مصر، خاصة حقبة المسيحية، ومعرفة مسار الكنيسة المصرية وآبائها.. والرهبنة المصرية بمؤسسيها ومسارها، والفنون من تشكيلى وموسيقى وترانيم، والأدب، وما حدث من تضفير أو تداخل بين هذا كله وبين الحقب التى تلت ذلك، وما كان فيها من معارف فى نطاق العقيدة والعبادة والمعاملات من منطلق إسلامى، وما صاحب ذلك من تصوف وقراءات قرآنية وموسيقى وفنون تشكيلية وهلم جرا، هى معرفة ضرورية بل وواجبة على كل مثقف مصرى وعلى كل مهتم بالعمل العام سياسيا وثقافيا واجتماعيا، لأنه وببساطة لن يستطيع الجدل مع المتأسلمين ومع الأزهر على أرضية دينية ضيقة أن يؤدى إلى نتيجة، والأجدى هو توسيع مروحة - إذا جاز التعبير - الحوار بأبعاد تاريخية وثقافية لا ينكرها إلا جاهل مغرض.
كم أود أن أمضى فى هذا الاتجاه، فأحاول تقديم قراءة أظنها جديدة تجيب على سؤال جوهرى: ماذا قدمت مصر للبشرية منذ بلورت معانى الأبدية وما بعد الموت إلى الآن؟!.